فصل: خلافة المعتز بن المتوكل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة المنتصر بن المتوكل:

وهو حادي عشرهم، لما أصبح نهار الأربعاء صبيحة الليلة التي قتل فيها المتوكل حضر الناس والقواد والعساكر إلى الجعفري، فخرج أحمد بن الخصيب إلى الناس، وقر عليهم كتاباً من المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتلته به، فبايع الناس المنتصر، صبيحة الليلة، التي قتل فيها المتوكل.
وفي هذه السنة توفي العباس أمير صقلية، فولى الناس عليهم ابنه عبد الله ابن عباس، ثم ورد من إفريقية خفاجة بن سفيان أميراً على صقلية، فغزا وفتح في جزيرة صقلية، ثم اغتاله رجل من عسكره، فقتله وهرب القاتل إلى المشركين، ولما قتل خفاجة استعمل الناس ابنه محمد بن خفاجة، ثم أقره على ولايته محمد بن أحمد بن الأغلب صاحب القيروان، وبقي محمد بن خفاجة أميراً على صقلية إلى سنة سبع وخمسين ومائتين، فقتله خدمه الخصيان وهربوا، فأدركهم الناس وقتلوهم، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة توفي أبو عثمان بكر بن محمد المازني النحوي الإمام في العربية.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين:
موت المنتصر:
في هذه السنة توفي المنتصر بالله، محمد بن جعفر المتوكل، يوم الأحد بسامراء لخمس خلون من ربيع الأول، بالذبحة، وكانت مدة علته ثلاثة أيام وعمره خمس وعشرون سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ستة أشهر ويومين، وكان أعين، أقنى، قصيراً، سهيباً، عظيم اللحية، راجح العقل، كثير الإنصاف، وأمر الناس بزيارة قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأمن العلويين، وكانوا خائفين أيام أبيه.

.خلافة المستعين أحمد بن محمد المعتصم:

وهو ثاني عشرهم، ولما توفي المنتصر، اتفق كبراء الدولة مثل بغا الكبير، وبغا الصغير، وأتامش الأتراك، ومحمد بن الخصيب، على تولية المستعين وكرهوا أن يقيموا بعض ولد المتوكل، لكونهم قتلوا المتوكل، فبايعوا المستعين ليلة الاثنين، لست خلون من ربيع الآخر، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس. وفيها ورد على المستعين الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عبد الله أمير خراسان، في رجب، فعقد المستعين لولده محمد بن طاهر على خراسان. وفيها مات بغا الكبير. فجعل المستعين ابنه موسى بن بغا مكانه. وفي هذه السنة شغب أهل حمص على كيدر عاملهم، فأخرجوه عنهم. وفي هذه السنة تحرك يعقوب ابن الليث الصفار من سجستان، نحو هراة. وفيها توفي محمد ابن العلا الهمداني، وكان من مشايخ البخاري ومسلم.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين:
في هذه السنة كان بين المسلمين والروم وقعة بمرج الأسقف. قتل فيها مقدم العسكر، وهو عمر بن عبد اللّه الأقطع، وكان من شجعان المسلمين وانهزمت المسلمون وقتل منهم جماعة، وخرجت الروم، فأغاروا إلى الثغور الجزرية.
وفي هذه السنة شغبت الجند، الشاكرية والعامة، ببغداد، على الأتراك، بسبب استيلائهم على أمور المسلمين، يقتلون من شاءوا من الخلفاء ويستخلفون من أحبوا من غير ديانة، ولا نظر للمسلمين، ثم وقعت في سامراء فتنة من العام وفتحوا السجون وأطلقوا ما فيها، ثم ركبت الأتراك وقتلوا من العامة جماعة وسكنت الفتنة.
وفي هذه السنة ثارت الموالي بأتامش، فقتلته، ونهبوا من داره أموالاً جمة، لأن المستعين كان قد أطلق يد أتامش، ويد والدته، أعني والدة المستعين، ويد شاهك الخادم، في بيوت الأموال، فكانوا يأخذون الأموال من دون غيرهم، فقتل أتامش بسبب استيلائه على الأموال.
وفي هذه السنة توفي علي بن الجهم الشاعر. وفي هذه السنة توفي أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية، ولما مات ولي موضعه أخوه زيادة الله بن محمد، وكنية زيادة الله المذكور أبو محمد.
ثم دخلت سنة خمسين ومائتين:
في هذه السنة ظهر يحيى عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويكنى أبا الحسين، بالكوفة، وكثر جمعه، واستولى على الكوفة، ثم جهز إليه محمد بن عبد الله بن طاهر جيشاً، فخرج إليهم يحيى بجمعة، فقتل يحيى وانهزم أصحابه، وقتل منهم جماعة وحمل رأسه إلى المستعين، ثم في هذه السنة ظهر الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بطبرستان، وكثر جمعه واستقل بملك طبرستان، ويسمى بالداعي إلى الحق، وبقي مستولياً حتى قتل في سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بعده الناصر الحسن بن علي. وفي هذه السنة وثب أهل حمص على عاملهم، وهو الفضل بن قارن أخو مازيار فقتلوه، فأرسل المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير، فحاربوه بين حمص والرستن، فهزمهم وافتتح حمص، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها. وفي هذه السنة توفي زيادة الله بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية، وكانت ولايته سنة وستة أشهر، وملك بعده ابن أخيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المذكور وفيها مات الخليع الشاعر، واسمه الحسين بن الضحاك، وأشعاره وأخباره مشهورة، وكان مولده سنة اثنتين وستين ومائة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين:
في هذه السنة اتفق بغا الصغير ووصيف، وقتلا باغر التركي، فشغبت الترك، وحصروا المستعين وبغا الصغير ووصيفاً في القصر، بسامراء فهرب المستعين وبغا ووصيف في حرّاقه، وانحدروا إلى بغداد، واستقر بها المستعين.
البيعة للمعتز بالله:
في هذه السنة بعد مسير المستعين إلى بغداد من سامراء، كما ذكرنا، خافه الأتراك فأخرجوا المعتز بالله بن المتوكل، وكان في الحبس، وبايعوه، واستولى على الأموال التي كانت في سامراء للمستعين، ولأمه، وأنفق في الجند، ثم عقد المعتز لأخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل، وهو الموافق لسبع بقين من المحرم، وجهزه مع خمسين ألفاً من الترك، إلى حرب المستعين، وتحصن المستعين ببغداد، وبقي المعتز بسامراء والمستعين ببغداد، وجرى بين الفريقين قتال كثير، ثم اتفق كبراء الدولة ببغداد، على خلع المستعين، وألزموه بذلك، وفي هذه السنة مات السري السقطي الزاهد.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين:

.خلافة المعتز بن المتوكل:

وهو ثالث عشرهم، ولما جرى من أمر المعتز والمستعين ما ذكرناه، خلع المستعين أحمد بن محمد المعتصم نفسه من الخلافة، وبايع المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم، وخطب للمعتز ببغداد يوم الجمعة، رابع المحرم من هذه السنة، وأخذت له البيعة على جميع من ببغداد، ثم نقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بعياله وأهله، وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم، فطلب المستعين أن يكون مقامه بمكة، فمنع من التوجه إلى مكة، فاختار المقام بالبصرة، فوكل به جماعة، وانحدر إلى واسط، ثم أمر المعتز بقتل المستعين، وكتب إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين، فامتنع أحمد بن طولون عن قتله، وسار أحمد بن طولون بالمستعين إلى القاطول وسلمه إلى الحاجب سعيد بن صالح، فضربه سعيد حتى مات، وحمل رأسه إلى المعتز. فأمر بدفنه، وكانت مدة خلافة المستعين إلى أن خلع ثلاث سنين وتسعة أشهر وكسراً، وكان عمره أربعاً وثلاثين سنة.
وفي هذه السنة عقد لعيسى بن الشيخ علي الرملة، فأنفذ له نائبا عليها يسمى أبا المعتز، وهذا عيسى شيباني وهو عيسى بن الشيخ بن السليك من ولد جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان، فلما كان من فتنة الأتراك ما كان بالعراق، تغلب ابن الشيخ المذكور على دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام إلى الخليفة، واستبد بالأموال.
وفيها توفي محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى الزمن البصريان وهما من مشايخ البخاري ومسلم في الصحيح.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين:
في هذه السنة شغبت الجند بسبب طلب رزق أربعة أشهر، فلم يجبهم وصيف إلى ذلك، فوثبوا على وصيف وقتلوه، فجعل المعتز كل ما كان إلى وصيف إلى بغا الشرابي.
وفي هذه السنة مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين. وفي هذه السنة ملك يعقوب الصفّار هراة وبوشنج، وعظم أمره، وهابه أمير خراسان وغيره.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين. في هذه السنة قتل بغا الشرابي الصغير، تحت الليل، وكان بغا قد خرج من بين أصحابه وجنده، ومعه خادمان له، وقصد الركوب في زورق، فأعلم المتوكلون بالجسر المعتز بخبره، فأمرهم بقتله، فقتلوه وحملوا رأسه إلى المعتز.
وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، توفي علي الهادي؛ وعلي التقي وهو أحد الأئمة الإثني عشر عند الإمامية، وهو علي الزكي بن محمد الجواد المقدم ذكره في سنة عشرين ومائتين، وكان علي المذكور قد سعى به إلى المتوكل، أن عنده كتباً وسلاحاً، فأرسل المتوكل جماعة من الأتراك، وهجموا عليه ليلاً على غفلة، فوجدوه في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر، وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن، في الوعد والوعيد، ليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل، والحصا، فحمل على هيئته إلى المتوكل، والمتوكل يستعمل الشراب، وفي يده الكأس، فلما رآه المتوكل أعظمه، وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس، فقال: يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً. فقال: إني لقليل الرواية للشعر. فقال المتوكل: لا بد من ذلك. فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ** غلبَ الرّجالُ فما أغنتهُمُ القلَلُ

واستُزلوا بعد عزٍ عَنْ معاقلهم ** فأَودَعوا حُفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعدما قَبروا ** أين الأسرة والتيجانُ والحلل

أين الوجوهُ التي كانت مُنعَّمة ** منْ دونها تُضرب الأستار والكللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهم ** تلكَ الوجوهُ عليها الدود يقتتَلُ

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا ** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

فبكى المتوكل، ثم أمر برفع الشراب وقال: يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فدفعها إليه ورده إلى منزله مكرماً، وكانت ولادة علي المذكور، في رجب سنة أربع عشرة ومائتين، وقيل ثلاث عشرة، وتوفي لخمس بقين من جمادى الآخرة، من هذه السنة، أعني سنة أربع وخمسين ومائتين، بسرمن رأى، ويقال لعلي المذكور، العسكري لسكناه بسرمن رأى يقال لها العسكري، لسكنى العسكر بها، وعلي المذكور عاشر الأئمة الاثني عشر، وهو والد الحسن العسكري، والحسن العسكري هو حادي عشر الأئمة الاثني عشر، وهو الحسن بن علي الزكي المذكور بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، المقدم ذكرهم، رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت ولادة الحسن العسكري المذكور، في سنة ثلاثين ومائتين، وتوفي في سنة ستين ومائتين في ربيع الأول، وقيل في جمادى الأولى، بسرمن رأى، ودفن إلى جانب أبيه علي الزكي المذكور، والحسن العسكري المذكور، هو والد محمد المنتظر، صاحب السرداب، ومحمد المنتظر المذكور هو ثاني عشر الأئمة الاثني عشر، على رأى الإمامية، ويقال له القائم، والمهدي، والحجة. وولد المنتظر المذكور، في سنة خمس وخمسين ومائتين، والشيعة يقولون: دخل السرداب في دار أبيه، بسرمن رأى، وأمه تنظر إليه، فلم يعد يخرج إليها، وكان عمره حينئذ تسع سنين، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين، وفيه خلاف.
وفيها توفي أحمد بن الرشيد، وهو عم الواثق. وفي هذه السنة ولي أحمد بن طولون على مصر.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين:
في هذه السنة استولى يعقوب بن الليث الصفّار على كرمان، ثم استولى بالسيف على فارس، ودخل يعقوب الصفار إلى شيراز، ونادى بالأمان وكتب إلى الخليفة بطاعته، وأهدى له هدية جليلة، منها عشرة بازات بيض، ومائة مَن من المسك.
خلع المعتز وموته:
وفي هذه السنة، في يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب، خلع المعتز بن جعفر، المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، واختلف في اسم المعتز، فقيل محمد، وقيل الزبير، ويكنى أبا عبد الله، وقيل كنيته غير ذلك، ومولده، بسرمن رأى، في ربيع الآخر، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وأمه أم ولد، تدعى قبيحة، ولليلتين خلتا من شعبان ظهر موته، وكان سبب ذلك: أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، فلم يكن عند المعتز مال يعطيهم، فنزلوا معه إلى خمسين ألف دينار فأرسل المعتز وسأل أمه قبيحة في ذلك، فقالت: ما عندي شيء. فاتفق الأتراك والمغاربة والفراعنة، على خلع المعتز، فصاروا إلى بابه، فقالوا: اخرج إلينا، فقال: قد شربت أمس دواء، وقد أفرط في العمل، فإن كان لا بد من الاجتماع، فليدخل بعضكم إليّ، فدخل إليه جماعة منهم، فجروا المعتز برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وبقي بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب القاضي وجماعة، فأشهدوهم على خلعه، ثم سلموا المعتز إلى من يعذبه، ومنعوه الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أدخلوه سرداباً، وجصصوه عليه، فمات ودفنوه بسامراء مع المنتصر. وكانت خلافته من لدن بويع بسامراء، إلى أن خلع، أربع سنين وسبعة أشهر إلا سبعة أيام، وكان عمره أربعاً وعشرين سنة، وثلاثة وعشرين يوماً، وكان أبيض، أسود الشعر.

.خلافة المهتدي:

وهو رابع عشرهم، وفي يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب، من هذه السنة، بويع لمحمد بن الواثق بالخلافة، ولقب المهتدي بالله، وكنيته أبو عبد الله، وأمه رومّية اسمها قرب.
وفي هذه السنة في رمضان، ظهرت قبيحة أم المعتز، وكانت قد اختفت لما قتل ابنها، وكان لقبيحة أموال عظيمة ببغداد، وكان لها مطمور تحت الأرض ألف ألف دينار، ووجد لها في سفط قدر مكوك زمرد، وفي سفط آخر مقدار مكوك لؤلؤ، وفي سفط مقدار كيلجة ياقوت أحمر، لا يوجد مثله. ونبش ذلك كله، وحمل جميعه إلى صالح بن وصيف، فقال صالح: قبح الله قبيحة، عرضت ابنها للقتل، لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذه الأموال كلها، وكان المتوكل قد سماها قبيحة، لحسنها وجمالها كما يسمى الأسود كافور. ثم سارت قبيحة إلى مكة، فكانت تدعو بصوت عال على صالح بن وصيف وتقول: هتك ستري، وقتل ولدي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني.
ظهور صاحب الزنج في هذه السنة كان أول خروج صاحب الزنج، وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، فجمع إليه الزنج الذين كانوا يسكنون السباخ، في جهة البصرة، وادعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ولما صار له جَمْع عبر دجلة ونزل الديناري، وكان صاحب الزنج المذكور قبل ذلك، متصلاً لحاشية المنتصر في سامراء، يمدحهم ويستمنحهم بشعره، ثم إنه شخص من سامراء سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى نسبته في العلويين، كما ذكر وأقام في الإحساء، ثم صار إلى البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين. وخرج في هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين ومائتين، واستفحل أمره، وبث أصحابه يميناً وشمالاً للإغارة والنهب. وفي هذه السنة توفي خفاجة بن سفيان أمير صقلية، وولى بعده ابنه محمد، وفيها توفي محمد بن كرام صاحب المقالة في التشبيه، وكان موته بالشام، وهو من سجستان، وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن الداراني صاحب المسند، توفي في ذي الحجة، وعمره خمس وسبعون سنة. وفيها توفي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، صاحب التصانيف المشهورة، وكان كثير الهزل، نادر النادرة، خالط الخلفاء ونادمهم، أخذ العلم عن النظام المتكلم، وكان الجاحظ قد تعلق بأسباب ابن الزيات، فلما قتل ابن الزيات، قيد الجاحظ وسجن، ثم أُطلق. قال الجاحظ: ذُكرت للمتوكل لتعليم ولده، فلما مثلت بين يديه بسامراء، استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني. وصنف الجاحظ كتباً كثيرة منها: كتاب البيان والتبيين، جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وكتاب الحيوان، وكتاب الغلمان، وكتاب في الفرق الإسلامية، وكان جاحظ العينين كاسمه، قال المبرد: دخلت على الجاحظ في مرضه فقلت: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج؟ لو نشر ما أحس به ونصفه الآخر منقرسٌ، لو طار الذباب به آلمه، وقد جاوز التسعين، ثم أنشد:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ** كما قد كنت أيام الشباب

لقد كذبتكَ نفسكَ ليسَ ثوبٌ ** دريسٌ كالجديد من الثياب

وقد روي أن موته كان بوقوع مجلدات عليه، وكان من عادته أن يصفها قائمة كالحائط، محيطة به، وهو جالس إليها، وكان عليلاً فسقطت عليه فقتلته، في محرم هذه السنة.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين:
في هذه السنة، جمع موسى بن بغا أصحابه لقتل صالح بن وصيف، فهرب صالح واختفى، ثم ظفر به موسى فقتله.
خلع المهتدي وموته:
في هذه السنة، في منتصف رجب، خُلع محمد المهتدي بن هارون الواثق بن المعتصم، وتوفي لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه، وكان سببه أنه قصد قتل موسى بن بغا، وكان موسى المذكور معسكراً قبالة بعض الخوارج، وكتب بذلك إلى بابكيال،- كان من مقدمي الترك- أن يقتل موسى بن بغا، ويصير موضعه، فأطلعَ بابكيال موسى على ذلك، فاتفقا على قتل المهتدي، وسارا إلى سامراء، ودخل بابكيال إلى المهتدي، فحبسه المهتدي وقتله، وركب لقتال موسى، ففارقت الأتراك الذي كانوا مع المهتدي عسكر المهتدي، وصاروا مع أصحابهم الأتراك مع موسى، فضعف المهتدي وهرب، ودخل بعض الدور، فأُمسك وداسوا خصيتيه، ليصفعوه، فمات، ودفن بمقبرة المنتصر. وكانت خلافة المهتدي أحد عشر شهراً ونصفاً، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان المهتدي أسمر عظيم البطن، قصيراٌ طويل اللحية، ومولده بالقاطول وكان ورعاً كثير العبادة، قصد أن يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية.